يقدم الأداء التجاري للدول الإسلامية في مجال الدوائر المتكاملة والمنتجات الالكترونية نموذجا شديد الوضوح لظاهرة ” التخصص الفريد” لدولة أو اثنتين على الأكثر من هذه الدول في مجال معين، مقابل الغياب الجماعي أو شبه الجماعي لهذا التخصص بباقي الدول، فبيانات الصادرات والواردات والفرق بينهما في هذا المجال داخل الدول الإسلامية، أوضحت أنه خلال الفترة من 2010 الي 2022 حقق الأداء التجاري للدول الإسلامية فائضا تصديريا قدره 69.26 مليار دولار امريكي، لكن هذه النتيجة الايجابية سرعان ما تكشف عن مأزق عميق، لكون 95.3 % من هذا الفائض حققته دولة واحدة هي ماليزيا، و 4.7% منه حققته المغرب، في حين باقي الدول الإسلامية التي تتخطي الخمسين دولة لديها عجز ا باهظا يقدر بـ 72.4 مليار دولار.
الرسم المرفق به ثلاثة اشكال الأول يرتب الدول الإسلامية بحسب قيمة الصادرات، والثاني يرتبها بحسب قيمة الواردات والثالث يرتبها بحسب قيمة الفرق بين الاثنين، وبتحليل الأرقام الواردة في الأشكال الثلاثة والعلاقات البينية فيما بينها أمكن الخروج بالاستنتاجات التالية، فيما يتعلق بالأداء التجاري الإسلامي في مجال الدوائر المتكاملة والمعدات الالكترونية:
1ــ لا يزال العالم الإسلامي في غالبيته الساحقة مجرد سوق لاستهلاك التقنية والالكترونيات، وفي أفضل أحواله مركز تجميع منخفض القيمة المضافة، فالدول التي استطاعت تشييد بنية صناعية، تعاني في الوقت نفسه من اكبر عجز في الميزان أو الأداء التجاري بهذا المجال، وفي هذا السياق تبرز كل من إندونيسيا وتركيا، فعلى الرغم من قاعدتهما الصناعية الضخمة، تعانيان من أكبر عجز في القطاع يبلغ 23.08 و 18.7 مليار دولار علي التوالي، وهذا يعني أن هذه الدول تستورد المكونات الإلكترونية اللازمة لمنتجاتها النهائية، مما يكشف عن فجوة تكنولوجية عميقة في إنتاج الرقائق والمكونات الأساسية
2ــ في المقابل تبرز دولتان فقط إلى جانب ماليزيا في تحقيق فائض، وهما المغرب0.58 مليار وأذربيجان 0.57 مليار، مما يشير إلى وجود نقاط انطلاق صغيرة للتخصص قد تكون مرتبطة بالاستثمار الأجنبي في قطاع السيارات أو الصناعات الخفيفة
3ــ عند النظر إلى الدول بحسب قيمة الصادرات، نجد هناك ثلاثة مستويات، مستوى الصادرات المرتفع الذي يزيد علي 500 مليار وهذا توجد به ماليزيا بصادرات قدرها 567.97 مليار دولار، ما يجعلها المنتج شبه الحصري والمصدر الأول للتقنية في الدول الإسلامية، ويرجع هذا إلى عقود من الاستثمار الأجنبي المباشر في تجميع وتصنيع أشباه الموصلات. هذا التركز يمثل قوة هائلة وفي نفس الوقت خطر استراتيجي على المجموعة بأكملها.
ثم المستوى المتوسط، وتتراوح فيه قيمة الصادرات بين 10 و 1.5 مليار، ويوجد به خمس دول هي اندونيسيا 9.27 مليار، والمغرب 6.95 والإمارات 6.66 وتركيا 1.89 وتونس 1.87 مليار، وتدخل تلك الدول ضمن فئة ” قاعدة التجميع” التي تعيد تصدير ما تجمعه في صورة منتجات إلكترونية نهائية أو مجمّعة ذات قيمة مضافة متوسطةـ وصادراتها لا تمثل إنتاجاً حقيقياً للدوائر المتكاملة.
وبعد ذلك المستوي المنخفض، الأقل من مليار إلي الصفر، وبه السعودية ومصر وباكستان وبقية الدول الإسلامية الأخرى، ويمكن القول أنها تمثل دول ” الغياب التقني” أو الدول التي تضم اقتصادات ضخمة، تكاد تكون غائبة تماماً عن خارطة التصدير التكنولوجي في هذا القطاع، مما يؤكد أنها لم تنجح في توطين أو حتى تجميع المكونات الإلكترونية، وهي تعتمد بشكل كلي على الاستيراد.
4ــ وعند النظر الى الدول بحسب قيمة الواردات، سنجد مستوي الاستيراد الضخم او المرتفع، وبه 20 دولة، تتصدرها ماليزيا 426.84 مليار ثم اندونيسيا 32.53 مليار، ثم تركيا 20.60 مليار، وهذا يعني أن ماليزيا هي الرائدة في الاستيراد كمدخلات تصنيع، ثم إندونيسيا وتركيا هما أكبر أسواق استهلاك التقنية، بما في ذلك التجميع الصناعي، ما يمثل فرصة هائلة للتجارة البينية بين الدول الثلاث إذا تمكنت ماليزيا من تلبية هذا الطلب.
بعد ذلك يأتي مستوى الاستيراد المتوسط، ويوجد به الإمارات 9.43 مليار والمغرب 6.37 وتونس 5.3 والسعودية 2.77 مليار دولار، وواردات هذه الدول تعكس طلباً صناعياً وتكنولوجياً كبيراً، مثل قطاع السيارات في المغرب أو قطاع اللوجستيات في الإمارات، وهذا الطلب يمثل جزءاً لا يتجزأ من مشاريع التحديث والرقمنة.
يأتي بعد ذلك مستوى الاستيراد المنخفض، ويضم بالأساس مصر باستيراد قيمته 2.01 مليار، ثم الجزائر 1.45 ثم الأردن 1.19 مليار، ثم باقي الدول بقيم ضئيلة، وهذه الدول لديها واردات منخفضة نسبياً في قطاع الدوائر المتكاملة والمعدات الالكترونية، ما قد يعكس ضعفاً في القوة الشرائية، أو عدم وجود قاعدة صناعية تستخدم هذه المكونات، أو ضوابط صارمة على الاستيراد كما هو الحال في مصر.
5ــ عند النظر الي الدول الإسلامية بحسب الفارق بين الاستيراد والتصدير ، أو ما يطلق عليه العجز في الميزان التجاري للدوائر المتكاملة والمعدات الالكترونية، سنجد أولا الدول التي حققت فائض ضخم وهذا المستوي توجد به ماليزيا منفردة، باعتبارها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تحقق فائضاً ضخماً، وهو دليل على تفوقها العالمي في إنتاج المكونات، وهذا الفائض هو المصدر الوحيد للقوة في القطاع، وفي المقابل العجز الضخم وهذا متركز بالأساس في اندونيسيا بعجز قيمته 23.08 مليار وتركيا 18.71 مليار، مما يعني أن مبادراتهما الصناعية والرقمنة تتم بتمويل خارجي للتقنية. هذا العجز هو التحدي الأكبر للتكامل التقني، ثم بعد ذلك هناك العجز المتوسط والمنخفض والذي يوجد في باكستان 4 مليارات والإمارات 3.41 مليار، والسعودية 2.5 مليار دولار، ويمكن القول إن هذه المجموعة تستنزف احتياطياتها لتمويل احتياجاتها التكنولوجية. وأبرز مثال علي ذلك أن الإمارات التي تشير ارقام العجز لديها إلى أن دورها كبوابة تقنية لا يولد فائضاً كبيراً، على عكس التوقعات السائدة.
نخلص من الأرقام السابقة إلى أن غالبية الدول الإسلامية، بما في ذلك القوى الصناعية الكبرى مثل تركيا وإندونيسيا، هي مستهلك صافٍ للتقنية ومستنزف للعملة الصعبة في هذا القطاع. هذا يضع الدول الاسلامية في حالة “أمن تقني هش”؛ فأي صدمة إنتاجية أو جيوسياسية تؤثر على ماليزيا يمكن أن تشل حركة التصنيع في تركيا والمغرب وتؤجل مشاريع الرقمنة في الخليج، ما يعني أن العجز المليوني لدول مثل تركيا وإندونيسيا هو دليل على أن النمو الصناعي للدوائر المتكاملة والمعدات الالكتروني في الدول الإسلامية لا يزال خارج شبكة القيمة المضافة التكنولوجية العالمية.

