بيتر ديزيكس
باحث بمعهد معهد ماساتشوستس للتقنية ” إم آي تي”
31 مارس 2020
ترجمة: نهال ذكي
أثار إغلاق ووقف الكثير من المؤسسات في الولايات المتحدة وحول العالم، نقاشا وجدلا حول متى يمكن استئناف النشاط في البلاد للحد من التداعيات الاقتصادية الناتجة عن الوباء، بينما أظهرت دراسة جديدة، يشارك في تأليفها أحد خبراء الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن الاهتمام بالصحة العامة أولاً هو تحديدا ما يولد انتعاشًا اقتصاديًا أقوى لاحقًا.
وباستخدام البيانات الخاصة بوباء الإنفلونزا التي اجتاحت الولايات المتحدة في 1918-1919، توصلت الدراسة الي أن المدن التي تصرفت بحزم للحد من التفاعلات الاجتماعية والمدنية كان نموها الاقتصادي أقوي بعد فترة القيود.
والواقع أن المدن التي سبقت نظيراتها في تنفيذ فكرة “التباعد الاجتماعي– الجسدي” وغيرها من التدخلات الصحية العامة بـ 10 أيام فقط، شهدت زيادة نسبية تعادل 5 في المائة في العمالة الصناعية بعد زوال الجائحة خلال عام 1923. وبالمثل، فإن 50 يومًا إضافية من التباعد الاجتماعي في مدينة من المدن، ساهمت بزيادة العمالة الصناعية بمقدار 6.5 في المئة.
يقول “إميل ڤيرنر” Emil Verner الأستاذ المساعد بكلية الإدارة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT Sloan) والمشارك بورقة بحثية جديدة: “لم نصل لأي دليل يثبت بأن المدن التي اتخذت إجراءات صحية حازمة، كان أداؤها أسوأ من الناحية الاقتصادية، بل إن المدن التي تصرفت بشكل أكثر حزما هي التي كان أداؤها أفضل.”
وبأخذ ما سبق في الاعتبار ، فقد لاحظ الباحثون أن فكرة “المقايضة” بين الصحة العامة والنشاط الاقتصادي هي فكرة غير دقيقة ؛ حيث أنه من غير المرجح أن تعيد الأماكن الأكثر تضررا من الوباء بناء قدراتها الاقتصادية أسرع من المناطق الأكثر سلامة.
ويضيف “ڤيرنر” بأن: “وجود مفاضلة بين معالجة تأثير الفيروس من جهة ، والنشاط الاقتصادي من جهة أخرى غير وارد، لأن الوباء نفسه مدمر للاقتصاد”.
لقد نُشرت الدراسة ـ التي كان عنوانها ” الأوبئة تضعف الاقتصاد، وليست الإجراءات الصحية العامة ـ دليل أنفلونزا عام 1918″ في شبكة أبحاث العلوم الاجتماعية كورقة عمل في 26 مارس. وشارك “ڤيرنر” في البحث كلا من “سيرچيو كورريا الباحث الاقتصادي في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ، و”ستيفن لاك الباحث الاقتصادي في البنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.
تقييم العواقب الاقتصادية
لدواعي البحث ، قام العلماء الثلاثة بفحص إحصاءات الوفيات من المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض “سي دي سي”، والبيانات الاقتصادية التاريخية من مكتب الإحصاء الأمريكي ، والإحصاءات المصرفية التي جمعها الاقتصادي المالي” مارك د. فلود“، باستخدام “التقارير السنوية للمراقبة المالية علي العملات“ وهو إصدار حكومي.
وكما يشير “ڤيرنر” ، فقد سعي الباحثون للتحقيق في جائحة إنفلونزا 1918-1919 للوصول الي الدروس المستفادة التي تصلح للتطبيق في الأزمة الحالية.
ويضيف “ڤيرنر” بأن “أصل اللجوء الي الدراسة هو أننا مهتمون بما ستكون عليه الآثار المتوقعة لفيروس كورونا الحالي علي الاقتصاد، وبماهية الطريقة الصحيحة للتفكير في العواقب الاقتصادية نتيجة تطبيق إجراءات الصحة العامة والتباعد الاجتماعي التي نشهدها في جميع أنحاء العالم”.
لقد توصل العلماء الي أن التدابير المتنوعة مثل “التدخلات بدون عقاقير طبية ” ، أو إجراءات التباعد الاجتماعي، ارتبطت بالنتائج الصحية المتفاوتة عبر المدن في عامي 1918 و 1919. فعند اجتياح الوباء ، كانت المدن الأمريكية التي أغلقت المدارس مبكرا مثل سانت لويس، أفضل حالًا في التصدي للأنفلونزا من الأماكن التي تم إغلاقها لاحقًا مثل فيلادلفيا. هذا وتوسع الدراسة الحالية هذا الإطار ليشمل النشاط الاقتصادي أيضا.
وقد تضمنت إجراءات التباعد الاجتماعي في ذلك الوقت إغلاق المدارس والمسارح ، وحظر التجمعات العامة ، كما حجمت النشاط التجاري، وهو ما يحدث الآن اليوم الي حد ما.
ويقول ڤيرنر: “إن إجراءات عدم اللجوء للعقاقير الطبية التي أتخذت عام 1918 تشبه بشكل مثير للاهتمام العديد من السياسات التي يتم استخدامها اليوم للحد من انتشار “كوڤيد -19”.
وبشكل عام، تشير الدراسة إلى أن الأثر الاقتصادي للوباء كان جسيما. فباستخدام البيانات وتطبيقها على مستوى الولاية، وجد الباحثون انخفاضًا بنسبة 18 في المائة في الإنتاج الصناعي خلال عام 1923 بعد موجة الإنفلونزا السابقة عام 1919.
وبالنظر إلى العواقب التي حدثت في 43 مدينة ، توصل الباحثون الي نتائج اقتصادية مختلفة بشكل كبير ، مرتبطة بسياسات التباعد الاجتماعي المختلفة. وكانت أفضل المدن أداءً هي أوكلاند ، كاليفورنيا. أوماها ، نبراسكا ؛ بورتلاند ، أوريغون وسياتل ، حيث فرضت جميعًها أكثر من 120 يومًا من التباعد الاجتماعي عام 1918. أما مدن مثل فيلادلفيا، سانت بول بمينيسوتا ؛ ولويل بماساتشوستس فقد كانت من المدن التي طبقت نظام التباعد الاجتماعي لأقل من 60 يومًا في عام 1918 ، ثم شهدت معاناة في التصنيع فيما بعد.
ويستطرد “ڤيرنر” “ما وجدناه هو أن المناطق التي تأثرت بشدة في جائحة إنفلونزا عام 1918 شهدت انخفاضًا حادًا ومستمرًا في عدد من أوجه النشاط الاقتصادي ، بما في ذلك العمالة الصناعية ، وعائدات التصنيع ، والقروض البنكية ، والمخزون من السلع الاستهلاكية المعمرة“.
الأعمال المصرفية
وفيما يتعلق بالأعمال المصرفية ، تضمنت الدراسة عمليات الشطب المصرفية كمؤشر على الحالة الاقتصادية ، لأن “البنوك كانت تقر بالخسائر الناجمة عن القروض التي تعثرت الأسر والشركات عن سدادها بسبب الاضطراب الاقتصادي الناجم عن الوباء” ، كما يقول “ڤيرنر”.
ووجد الباحثون أن القطاع المصرفي في مدن مثل ألباني بنيويورك. وبرمنغهام بألاباما ؛ وبوسطن ؛ وسيراكوز بنيويورك، كافح أكثر من أي مكان آخر في البلاد، حيث طبقت جميع هذه المدن نظام تباعد اجتماعي أقل من 60 يومًا عام 1918.
وكما ذكر المؤلفون في الورقة البحثية، فإن الصراعات الاقتصادية التي أعقبت جائحة إنفلونزا 1918-1919 قللت من قدرة الشركات على إنتاج السلع – لكن انخفاض العمالة عني أن قدرة الناس الشرائية كانت ضعيفة أيضًا.
“والدليل الوارد بالورقة البحثية، يشيرإلى أن الوباء يخلق مشكلة عرض ومشكلة طلب” ، حسب قول “ڤيرنر”.
كما إنه يقر بتغيير تكوين الاقتصاد الأمريكي منذ 1918-191، حيث أن التصنيع قل نسبيًا اليوم بينما أصبحت الخدمات أكثر نشاطا. وقد كانت جائحة 1918-1919 مميتة بشكل خاص للبالغين في سن العمل ، مما جعل تأثيرها الاقتصادي شديدًا. ومع ذلك، يعتقد الاقتصاديون أن القوي المحركة للوباء السابق قابلة للتطبيق بسهولة على أزماتنا الحالية.
و أخيرا يشير “ڤيرنر” إلى أن “هيكل الاقتصاد يختلف بالطبع. ومع ذلك مع إنه لا ينبغي للمرء أن يستنبط مباشرة من التاريخ، إلا أننا يمكننا تعلم بعض الدروس التي قد تتعلق بنا اليوم“. وهو يؤكد علي أن الأهم من بين هذه الدروس هو أن “اقتصاديات الوباء تختلف عن الاقتصاديات العادية”.