تستحوذ على %39.5 من الدخل العالمي: الطبقة الوُسطى تصمُد أم تتصدّع؟

محمود سلامة الشريف

يُقسٍّم تقرير “اللاّمساواة العالمي 2022” سُكان العالم من حيث “الدخل القومي” إلى ثلاث فئات رئيسية، الأولى هي الفئة الأغنى وتُمثل %10 فقط من السُكان، وتستحوذ هذه الفئة مُنفردة على %52 من الدخل، أمّا الفئة الثانية هي الفئة الوُسطى والتي تبلغ نسبتها %40 من سُكان العالم وتستحوذ بدورها على %39.5 من الدخل، أما الفئة الثالثة وتشمل %50 من السُكان لم يتجاوز نصيبها من الدخل %8.5 فقط. كما هو موضح بالشكل رقم(1). إزاء هذه الحالة من اللّامساواة الصارخة بين فئات سكان العالم الثلاثة، هل تصمُد الطبقة الوُسطى أم تتصدّع وتتآكل؟ ولماذا الطبقة الوُسطى على وجه الخصوص؟

تكمُن أهمية الطبقة الوُسطى في كونها الأكثر استهلاكاً، فقد أنفقت ما مجموعه 44 تريليون دولار في عام 2020 أي %68 من إنفاق المستهلكين في العالم، ما يُحفزّ بدوره عملية الإنتاج والتصنيع فهي الفئة المستهدفة لاعتبارها محركاً لاقتصادات الدول. كذلك هي الفئة ذاتها التي يستهدفها القطاع المصرفي، فالخدمات المصرفية كالقروض الشخصية وقروض السيارات والبطاقات الائتمانية على سبيل المثال تخرج عن مقدور الفئة الفقيرة ولا تحتاج لها فئة الموسرين في الأغلب، بينما العامل المُحفّز لها هي الطبقة الوسطي التي تُسهم بشكل ٍكبير في تعاظُم نشاط هذا القطاع. الطبقة الوُسطى كذلك هي الأكثر سعياً نحو التعليم والأكثر قدرة على تحمّل مشاقه وأعباءه المادية والمعنوية لإيمانها بأنه السبيل الوحيد لكسب العيش فيخرج منها السواد الأعظم من المبتكرين ورواد الأعمال والموظفين العمومين وغيرهم. من ثم تتكوّن علاقة طردية بين حجم الطبقة الوسطي والنمو الاقتصادي للدولة، فكلما زاد حجمها على حساب الفئة الفقيرة وفئة الأغنياء كان ذلك مؤشراً صحيّاً والعكس صحيح. ولكن من هُم الأشخاص الذين يدخلون ضمن الطبقة الوُسطى؟ وهل تتفاوت حصص دخلهم بحسب موقعهم الجغرافي؟
ليس من السهل وضح تعريف مُحدد وحاسم لمفهوم ونطاق الطبقة الوُسطى على مستوى العالم، إذ تختلف هذه الطبقة من مكان لآخر ومن زمان لآخر، مع وضع البُعديّن الاقتصادي والاجتماعي عين الاعتبار، إلا أنه بحسب دراسة أجراها معهد بروكنجز «BROOKINGS» تنقسم هذه الطبقة إلى الطبقة المتوسطة الدنيا (التي تكسب 11 إلى 50 دولارًا في اليوم في عام 2011 تعادل القوة الشرائية) والطبقة المتوسطة العليا (التي تكسب 51 إلى 110 دولارًا أمريكيًا في اليوم في عام 2011 تعادل القوة الشرائية). وإن كان هذا المعيار ليس قاطعاً على تحديد الطبقة الوُسطى إلا أنه يظل المعمول به لقياس هذه الطبقة في أغلب دول العالم، غير أن لهذه الفئة سماتها وقسماتها التي تتفرد بها وتميزها عن الفئتين الأُخرتين الغنية والفقيرة، حيث ينتمي إليها كل من يستطيع أن يُلبّي حاجاته الأساسية مع الاحتفاظ بحد أدنى من جودتها، ويتمكّن من عيش حياة كريمة يتمتّع فيها بأمان نسبي عن الفقر والعوز، يشعر بالقلق أحياناً إزاء التضخم أو الصدمات الاقتصادية التي تؤثّر سلبا في مستوى معيشته إلا أنه لايزال قادراً على سداد فاتورة احتياجاته من المسكن والمأكل والمشرب.
أما من حيث تموضع الطبقة الوُسطى بحسب المناطق الجغرافية فقد تفاوت نصيبها من الدخل في كل منطقة على حِدة، كما هو في الشكل رقم(2). إذ تصدّرت أوروبا ترتيب المناطق الثمانية واستحوذت الطبقة الوُسطى فيها على %45 من إجمالي دخلها القومي، تلتها منطقتي آسيا الشرقية وأمريكا الشمالية إذ تخطّت نسبة استحواذ الطبقة الوُسطى على %40 من إجمالي الدخل القومي لكل منطقة منهما، فيما تقلّصت نسبة استحواذ هذه الطبقة عن %40 من الدخل القومي في المناطق الجغرافية الأخرى، وهم روسيا ووسط آسيا، أمريكا اللاتينية، أفريقيا جنوب الصحراء، جنوب وجنوب شرق آسيا، الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، غير أن المنطقتين الأخيرتين هما الأدنى من حيث نصيب الطبقة الوُسطى من الدخل القومي والتي بلغت %32 من دخل كل منطقة.


تُظهر البيانات كذلك حجم فجوة اللاّمساواة في الدخل بين الطبقة المتوسطة وطبقة الأغنياء التي تزداد حِدّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنة بأوروبا الأكثر مساواتية، حيث يبلغ نصيب طبقة الأغنياء %58 من الدخل القومي في الأولى مقابل %36 في الثانية، أمّا الطبقة الوُسطى استحوذت على %32 من الدخل القومي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقابل %45 في أوروبا. كما أن وضع اللاّمساواة يظل كما هو في حالة تنافر عند مقارنة الطبقة الفقيرة بنظيرتها المتوسطة ففي أوروبا استحوذت الطبقة الفقيرة على %19 من إجمالي الدخل القومي للمنطقة وهو الأعلى على الاطلاق بينما استحوذت الطبقة ذاتها على %9 فقط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهو الأدنى على الاطلاق. حالة اللاّمساواة التي تبدّت بجلاء في 4 مناطق جغرافية على الأقل تعكسُ الوضع الاقتصادي غير المستقر لها لتظل دولها مدعوة لاتخاذ ما يلزم نحو تخفيف حدّة اللامساواة بين مواطنيها وضرورة تمدُدّ رقعة الطبقة الوُسطى لتكون الغالبة، من خلال تبنّي حِزم سياسات مالية وإدارية لعلّ أهمّها: إعادة توزيع الدخل بين السُكان من خلال سياسة ضريبية فعّالة ومنصفة، زيادة الانفاق على برامج الحماية الاجتماعية كالدعم المباشر لبعض السلع ووضع منظومة تعليمية وصحية تستغرق الفئات غير القادرة، تشجيع الشمول المالي وتسهيل الوصول للخدمات المصرفية، وغيرها.
وفي الإجابة على تساؤل: هل الطبقة المتوسطة تصمُد أم تتصدّع؟ فإن المؤشرات العالمية تبعث ببادرة أمل لا تُنبِئ فقط عن صمود الطبقة المتوسطة بل وتمدُدها عالمياً لتصل بحلول عام 2030 إلى حوالي 5.2 مليار نسمة، أي %65 من سكان كوكب الأرض حينها. من ثم فإن الطبقة الوُسطى في العالم تنمو بما متوسطه 140 مليون شخص سنوياً. وذلك رغم الصدمة التي تعرضّت لها هذه الطبقة خلال جائحة كورونا والتي فقدت بسببها 90 مليون شخص بحسب بيانات البنك الدولي ومركز «Pew» للأبحاث. غير أنه من الملاحظ أن اتساع نطاق الطبقة المتوسطة مستقبلاً لن يكون بالتساوي بين المناطق الجغرافية في العالم وإنما سوف يتركز بصفة أساسية في دول شرق أسيا ذات العدد الأكبر من السُكان والاقتصاد الأقوى بين اقتصادات العالم.
أخيراً لا مفر عن السعي نحو تمدد الطبقة الوُسطى وبخاصة في الدول النامية على حساب الطبقتين الغنيّة والفقيرة، فهي ظاهرة صحيّة تُحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الدولة، وتحدّ بشكل كبير من اللامساواة في الدخل، لتنزل منزلة الضرورة لا الرفاه الاجتماعي.