خطوة مهمة نحو طاقة لا تنضب: 50% كسباً في صافي القوى المُوَلَدة بواسطة الاندماج النووي

 

صباح الثلاثاء 13 ديسمبر 2022، أعلن علماء أمريكيون بمختبر لورانس ليفرمور الوطني تحقيق ما وصفوه بـ “اختراق علمي كبير” في مجال الاندماج النووي، قد يحدث يومًا ما ثورة في إنتاج الطاقة على الأرض، وتمثل هذا الاختراق في استخدام الاندماج النووي لإنتاج كمية من الطاقة أكبر من كمية الطاقة المستهلكة في عملية الإنتاج ذاتها بنحو 50%، وهي زيادة تعادل 8 أضعاف نظيرتها التي أنتجت خلال التجارب الأخيرة التي أجريت في بداية العام، فما الذي يعينه هذا التطور بالنسبة لمسيرة طاقة الاندماج النووي؟… وهل اصبح هذا النوع من الطاقة وشيك الاستخدام؟

فيما يتعلق بالسؤال الأول، يمكن القول أن فكرة الاندماج النووي ليست وليدة اللحظة وإنما تعود لما قبل 1958 ذلك العام الذي عُقد فيه مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، لتتوالى البحوث والدراسات ويزداد اهتمام المؤسسات والدول بشكل أكثر واقعية عن كيفية توليد واستخدام الطاقة الهائلة المُصاحبة لعملية الاندماج النووي، هذا الاندماج الذي تستمد منه الشمس وسائر النجوم طاقتها ليكون استنساخه على الأرض أشبه بمصدر طاقة لا ينضب.

 وقد ظلت حركة البحث العلمي المتعلقة بإنتاج الطاقة من خلال الاندماج النووي في تطور مضطرد ومستمر، غير أن الدراسات تشير إلى استحواذ 14 دولة فقط على أكثر من 90% من المقالات والبحوث المنشورة المصنفة عالمياً في (SCOPUS) من بين ما يجاوز 250 ألف بحثاً في الفترة ما بين 1976 حتى 2016، تقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية بمجموع 7646 بحثاً ثم اليابان بمجموع 3026 بحثاً، بينما تزيّلت الترتيب كندا وهولاندا بمجموع 293 و276 بحثاً على التوالي كما هو موضح في الجدول رقم(1). ومختصر ما أجمعت عليه هذه البحوث هو إمكانية إنتاج طاقة هائلة بفضل الاندماج النووي غير أنها أجمعت أيضا على أن الطاقة المبذولة أو المستهلكة لحدوث عملية الاندماج أعلى من المولدة عنها بكثير من ثم لا تحقق كسب صاف في القوى المولدة.

صافي القوى المولدة هو الفارق بين الطاقة المستخدمة في عملية الانتاج مقابل الطاقة المنتجة، ويكون صافي القوى موجباً إذا كان حجم الطاقة المنتجة يزيد على حجم الطاقة المستخدمة ويكون سالباً إذا حدث العكس. الصافي الموجب للقوى المولدة إذن هو ما يصبو إليه العالم، وتترجمه الأرقام لا سيما في توليد الطاقة الكهربائية، فعلى سبيل المثال يحتاج توليد كيلو واط /ساعة من الكهرباء إلى 1.12 رطل أي نصف كيلوجرام من الفحم، وبالتالي فالطاقة المستخدمة لحرق 200 كجم فحم أقل بكثير من الطاقة المولدة وهي 4000 كيلو واط /ساعة وهو يُمثل متوسط الاستهلاك المنزلي السنوي، لذا فإن الفحم يعد أكبر مصدر لتوليد الكهرباء بنسبة لامست 40% من إجمالي الكهرباء المولدة عالمياً بحسب أحدث بيانات للبنك الدولي لما تحققه من صافي أو فائض القوى المولدة.

المنطق ذاته يُقاس عليه في عملية الاندماج النووي، بل لطالما كان المعوق الأكبر أمام العلماء والباحثين هو كيفية تحقيق صافي قوى مولدة من خلاله، نظراً لتعاظم الطاقة المطلوبة لحدوث هذا النوع من الاندماج مقابل تضاؤل الطاقة المولدة منه، إذ تحتاج عملية الاندماج قدر كبير من الطاقة تتمثل في توليد درجات حرارة تزيد على 100 مليون درجة مئوبة حتى تتحد على إثرها نواتان ذريتان خفيفتان لتكوِّنا نواة ذرية واحدة أثقل وزناً، بالإضافة إلى طاقة ضغط شديدة تُجبر النواتين على الاندماج، وطاقة أخرى لإبقاء هذا الاندماج فترة أطول، ليصاحب هذه العملية في المقابل انبعاث كميات قليلة من الطاقة المولدة أو المنتجة، فحقيقة المشكلة ليس في عملية الدمج ذاتها وإنما لاستهلاكها قدر كبير من الطاقة يفوق ما تنتجه، وهو ما تحقق في يناير 2022 حيث تم استهلاك طاقه قدرت بـ 1.7 ميجا جول في عملية ادماج في أحد المختبرات الأمريكية ولكن في المقابل لم تنتج سوى 1.3 ميجا جول فقط، لينعدم صافي القوى المولدة، بحسب ما نشرته مجلة(nature) على موقعها (https://go.nature.com/3hKuEzv)

 بناء عليه حظيت التجربة الأمريكية الأخيرة باهتمام إعلامي كبير -وهو مناط إجابة التساؤل الثاني- حيث استهلكت هذه التجربة ما مقداره 2.05 ميجا جول من الطاقة في عملية الاندماج لينتج في المقابل2.5 ميجا جول تصل إلى 3.15 ميجا جول، وتحقق بذلك أكثر من 50% كسباً في صافي القوى المولدة أي 1.5 مرة أكثر من الطاقة المستهلكة، ورغم أن هذه البيانات لازالت قيد التحليل إلا أن الطاقة المولدة تعد أكبر بـ8 مرات من نظيرتها التي أنتجت خلال التجارب الأخيرة التي أجريت في بداية العام ذاته.

الطفرة التي تحققت في انتاج الطاقة الاندماجية كانت بفضل طريقتين، الطريقة الأولي تقنية “الحبس بالقصور الذاتي” وهي خاصية فيزيائية تعمل على ضغط الوقود المستخدم في عملية الاندماج وتسخينه بسرعة كبيرة من خلال قصف مساحة صغيرة من بلازما الهيدروجين بأكبر ليزر في العالم، في المقابل بتولد عن هذا الاندماج طاقة هائلة. أما الطريقة الثانية هي استخدام المغناطيس لتقييد البلازما فائقة السخونة وبقاءها أطول فترة ممكنة لتوليد أكبر كم ممكن من الطاقة الاندماجية. ورغم تحقيق الاندماج الآن بشكل روتيني في التجارب، إلا أنه لا تزال هناك حاجة إلى تحسين خصائص الحبس بالقصور الذاتي واستقرار البلازما لأطول فترة ممكنة للحفاظ على التفاعل وإنتاج الطاقة بطريقة مستدامة وتصميم تقنيات جديدة لتحقيق أكبر قدر من صافي القوى المولدة.

جدير بالذكر أن صافي القوى المولدة من الطاقة الاندماجية هو مجرد عرض للمقارنة بين حجمي الطاقة المستخدمة من ناحية والمنتجة من ناحية أخرى، وليس إجمالي الطاقة الكلية التي استغرقت لتشغيل الليزر وتشغيل المشروع ككل، لذا من الصعب -على الأقل في الوقت الحالي- تقويم أو تحديد قيمة سعرية للطاقة الاندماجية أو ربطها بعملة معينة، لأنها لا زالت قيد التطوير داخل المختبرات ولم تدخل مرحلة الانتاج والتصنيع، وتشير التقديرات -على خلاف ما يتصوره البعض- أن الطاقة الاندماجية ليست وشيكة الانتاج، بل تحتاج ما يزيد على 20 عاماً حتى تفرض نفسها كمنافس نظيف للطاقة نظراً لتعقيد عملية الاندماج والتي تحتاج مزيدا من البحث والدراسة والتجربة ومزيدا من الاستثمارات.