%28 فقط من محتوى البث الفضائي العربي “بالفُصحى”!

محمود سلامة

تبرُز اللّغة العربية الفصحى (المعيارية) في 4 صنوف فقط من أصناف البث التليفزيوني المرئي في المنطقة العربية وهي: القنوات الإخبارية التي بلغ عددها 134 قناة تليفزيونية، تليها في الترتيب القنوات الدينية بمجموع 122 قناة، ثالثاً القنوات التعليمية 33 قناة، وأخيراً القنوات الوثائقية 25 قناة. أي أن مجموع القنوات التي تُقدِم محتوى بالفصحى هو 314 قناة من إجمالي 1122 قناة تليفزيونية تبثها الفضائيات العربية بحسب أحدث تقرير للبث الفضائي العربي الصادر عن اتحاد إذاعات الدول العربية – جامعة الدول العربية في 2016.

تلك الإحصاءات لا تخلو من أهمية إذ تعكس مقدار وحجم ما يتلقاه المشاهد من محتوى بالفصحى وهو %28 فقط، مقابل %72 من المحتوى التليفزيوني الذي يُبث له باللغة الدارجة أو العاميّة أو المحليّة من خلال قنوات الدراما والموسيقى والمنوعات والترفيه، بالإضافة إلى القنوات الرياضية والأفلام وغيرها، والتي بلغ عددها 808 قناة فضائية عربية رغم ما قد يتخلّلها من برامج تُقدَّم بالفصحى إلا أن نسبتها لا تكاد تُذكر مقارنة بما يُقدم من محتوى على مدار الساعة فيها. ربما ترجع هذه الفجوة في صعوبة الحفاظ على الفصحى كلغة البث الأولى في الفضائيات العربية إلى انكماش القنوات الحكومية إلى 159 قناة تليفزيونية فقط، مقابل تضخّم القنوات الخاصة التي بلغ عددها 963 قناة تليفزيونية، تلك التي تبحث في المقام الأول عن أوسع انتشار لها بتقديم محتوى بسيط يُخاطب العامة لتحقيق أعلى نسبة مشاهدة وبالتالي تحقيق أعلى عائد ربحي على حساب الالتزام بحد أدني من الفصحى في محتواها.
رغم أهمية ذيوع الفصحى من خلال البث التلفزيوني إلا أن ذيوعها على الإنترنت لا يقل أهمية، ويظهر ذلك بالنظر إلى الوقت الذي يقضيه كل فرد أمام شاشات التليفزيون مقابل نظيره المقضي أمام الإنترنت، إذ أن متوسط نصيب الفرد من البث التليفزيوني حول العالم في 2021 هو ساعتان و45 دقيقة يومياً بحسب منصة (Statista)، بينما يقضي كل مستخدم للإنترنت العادي ما متوسطه 7 ساعات بواسطة كافة الأجهزة سواء مكتبية أو محمولة أو لوحية بحسب التقرير الرقمي السنوي (DIGITAL 2021)، وهذا يعني أن ما يقرب من %42 من حياتنا في اليقظة متصلة بالإنترنت بافتراض أن متوسط عدد ساعات النوم من 7 إلى 8 ساعات يومياً لكل فرد.
تُشير الإحصاءات الآنف ذكرها إلى أن هناك حاجة لزيادة البرامج والوقت المُخصص الذي يُبث فيه محتوى بالفصحى من ناحية وتنوعه من ناحية أخرى لكيلا يكون قاصراً على القنوات الإخبارية والدينية والتعليمية والوثائقية وإنما يمتد كذلك لقنوات المنوعات والأطفال وغيرها. كما أن الضرورة أصبحت أدعى نحو رقمنة اللغة العربية الفصحى لتكون في متناول متصفحي الإنترنت الذين يزداد عددهم باضّطراد للحدّ من ظاهرة هجر الفصحى لصالح العامية وبقائها متداولة بين المستخدمين.


زاد عدد مستخدمي الإنترنت في المنطقة العربية من 2.5 مليون في عام 2000 إلى 184 مليوناً في 2019 وهو ما أثّر بطبيعة الحال على زيادة المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت ليصل إلى %1.1 تقريباً رغم ضآلته بالنسبة للمحتوى الرقمي بالإنجليزية الذي يستحوذ منفرداً على أكثر من %60 من محتوى شبكة الإنترنت بحسب تقرير اليونسكو 2021 الموسوم بـ»اللغة العربية والإبداع»، الأمر الذي دفع لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا لإطلاق جائزة «الإسكوا للمحتوى الرقمي العربي» من خلال المنتدى العربي للتنمية المستدامة الذي عُقد في مارس 2021، إلا أن الجائزة لم تشترط أن يكون المحتوى المُقدم بالفصحى دون غيرها.
يصعُب استخلاص نسبة المحتوى الرقمي العربي بالفصحى من مجموع المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت، ويزداد الأمر صعوبة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأخير التي يتضاءل فيها استخدام الفصحى مقابل العامية واللهجات المختلفة، غير أن رقمنة الفصحى وانتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية من شأنه أن يُبدد أو على الأقل يُخفف الفروق اللغوية بين اللهجات العامية على مستوى الدولة الواحدة وكذلك على مستوى العالم العربي بين الـ 22 دولة. كما أن رقمنة الفصحى ينعكس بشكل إيجابي على ترسيخ المصطلحات والمفاهيم ويُعزز قدرة الفهم والاستيعاب لدى العامة ويُنمّي المسامع نحو الإدراك السلس وسهولة التعبير، فضلاً عن ذيوع ثقافة الفصحى التي أضحت قاصرة على المتخصصين دون سواهم، مما يجعل رقمنة الفصحى أحد مرتكزات النهوض بلغتنا الأم. ويُمكن رقمنة الفصحى من خلال 5 آليات على سبيل المثال، الأولى: المسح الضوئي لكل كتب التراث العربي وبثها عبر منصات إلكترونية خاصة بها. ثانياً: دفع كافة المؤسسات الأكاديمية لإنشاء مواقع إلكترونية لها وطرح منتجاتها البحثية مع الاحتفاظ بحقوق الملكية الفكرية. ثالثًا: ابتكار تطبيقات الكترونية لشرح قواعد الفصحى بطرق بسيطة تكون في متناول أيدى الأفراد من خلال هواتفهم. رابعاً: إنشاء منصات إلكترونية لتعلم الفصحى لغير الناطقين بها. خامساً: رقمنة المعاجم اللغوية بطرق بحث مستحدثة يسيرة على المستخدمين.
وفي السياق ذاته فإن الجوائز العديدة التي تمنحها بعض الدول والمؤسسات الثقافية العربية مدعوّة لأن تشمل جائزة سنوية جديدة لأكبر عمل إبداعي يُعلي من شأن اللغة العربية الفصحى.


ربما تنجح هذه المحاولات في الحد من تراجع وتدهور اللغة العربية الفصحى حتى تعود إلى ما كانت عليه في القرن الثالث والرابع الهجريين أي خلال عامي 800 إلى 1000 ميلادي حيث كانت الفصحى هي لغة العلوم والفنون آنذاك.