معضلة المحكمة الأرقى عالميا: 77 عاما من الأهمية القصوى والفعالية المتدنية

مراجعة أوضاع محكمة العدل الدولية الأرقى عالميا في سلك القضاء الدولي تشير إلى أنها تعيش معضلة كبرى تتمثل في أنها طوال عمرها البالغ 77 عاما، وهي تتأرجح بين الأهمية القصوى لوجودها، والفعالية المتدنية لأدائها على الأرض … كيف ذلك؟
تأسست المحكمة بموجب ميثاق سان فرانسسكو بعد الحرب العالمية الثانية في 1945، وهى الجهاز القضائي الوحيد ضمن أجهزة منظمة الأمم المتحدة الستة (الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية، والأمانة العامة).
تتشكل هيئة المحكمة من 15عضواً من قضاة مستقلين ينتخبون من صفوة القضاة والمشرعين حول العالم والمشهود لهم بالكفاءة فى القانون الدولى العام بغض النظر عن جنسيتهم، ولا يجوز أن يكون من بين أعضائها أكثر من عضو من رعايا الدولة الواحدة وإذا كان له أكثر من جنسية فالعبرة بجنسية الدولة التى يباشر فيها عادة حقوقه المدنية والسياسية، ويحق لكل دولة أن ترشح أسماء لتولي هذا المنصب، وتعرض الأسماء علي الأمين العام، والذي يعرضها علي مجلس الأمن للتصويت عليها، ثم تعرض علي الجمعية العامة للتصويت عليها، ويتم اختيار من حصلوا علي الأغلبية المطلقة في الجهازين، واذا تساوي شخصين من دولة واحده يفضل الأكبر سنا.
الاختصاص القضائي للمحكمة قاصر على حل المنازعات بين الدول وبعضها فقط، دون الخلافات بين المنظمات الدولية وبعضها، والمنظمات الدولية والدول، والشركات والاتحادات والجمعيات الدولية، والأفراد الطبيعيين، على خلاف “المحكمة الدولية الجنائيةICC-” التي تضطلع بمحاكمة الأفراد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة البشرية، وبناء عليه يمكن للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وعددهم 193 دولة أن يرفعوا دعواهم أمام محكمة العدل الدولية، أما الدول غير الأعضاء لها الحق أيضا في اللجوء للمحكمة بشرط قبولهم لنظامها الأساسي وتعهدهم بالامتثال لأحكامها مع تحملهم نفقات المحكمة.
تنظر محكمة العدل الدولية النزاعات كافة، أيا كان موضوعها طالما يدخل في إطار القانون الدولي العام الذي يهدف إلى حل النزاعات الدولية بطريقة سلمية قضائية، على سبيل المثال تنظر منازعات تفسير معاهدة من المعاهدات، وتحقيق واقعة من الوقائع التى خرقت التزام دولى، فرض تدابير عاجلة لحماية الأمن والسلم الدوليين، ولعلّ من أحدث الأحكام التي أصدرتها الحكم في دعوى هولندا وكندا ضد سوريا في عام 2023 بضرورة اتخاذ الأخيرة جميع الإجراءات الفعالة لمنع التدمير وضمان الحفاظ على أي أدلة تتعلق بالادعاءات المرتبطة بالأفعال التي تدخل في نطاق الاتفاقية ضد التعذيب وغيره من سوء المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة بعد أن زعمت هولندا وكندا انتهاك السلطات في دمشق لتلك الاتفاقية التي دخلت حيز النفاذ عام 1987.
ومؤخراً أمرت محكمةُ العدل الدوليّة إسرائيلَ في يناير 2024 باتخاذ إجراءات مؤقتة لمنع الإبادة الجماعيّة في غزة والتحريض المباشر عليها وذلك في الدعوى التي همت جنوب أفريقيا برفعها ضد إسرائيل لاقترافها جرائم الإبادة البشرية في فلسطين بعد أحداث 7 أكتوبر.
ولعل التساؤل الجدير بالطرح هو، لماذا لم ترفع فلسطين ضد إسرائيل دعوى أمام محكمة العدل الدولية عن جرائم الإبادة البشرية بعد أحداث 7 أكتوبر 2023 وأخذت جنوب أفريقيا على عاتقها هذه الدعوى؟ الإجابة ببساطة أن فلسطين ليست ذات أهلية كاملة ولا معترف بها من المجتمع الدولي كافة، ومنظمة الأمم المتحدة على وجه الخصوص منحتها صفة “مراقب غير عضو” في عام 2012، وبالتالي لا تتمتع بكافة حقوق والتزامات الدول الأخرى في المنظمة على رأسها الالتجاء لمحكمة العدل الدولية، فكان الحل أن نسقت جنوب أفريقيا مع فلسطين لرفع الدعوى ضد اسرائيل باعتبار أن كل منهما صدقتا على الاتفاقية الدولية الموسومة بـ “منع جريمة الإبادة الجماعية التي أقرت عام 1949”.
لعل تساؤل آخر جدير بالطرح وهو لِمَ لم تبادر جامعة الدول العربية، أو أي من الدول العربية برفع الدعوى على اسرائيل ؟ بالنسبة لجامعة الدول العربية فيتعذر ان ترفع هذه الدعوى أو تنضم إليها لكونها منظمه دولية إقليمية واللجوء لمحكمة العدل الدولية قاصر على الدول كما أسلفنا، اما الدول العربية فربما رأت أن مبادرتها برفع الدعوى ربما تؤدي إلى تأجيج الصراع أو اتساع نطاقه في المحيط العربي، وقد يبرر البعض الآخر أن كون جنوب أفريقيا دولة غير عربية، من شأنه أن يجعل القضية مسألة عالمية وليست اقليمية أو عربية فقط.
على الرغم من صدور الحكم فإنه لم ينفذ عمليا، لأن المحكمة ليس لديها آلية لإجبار الدول المحكوم عليها على تنفيذ أحكامها، وما للدولة المحكوم لها سوى اللجوء مرة أخرى لمجلس الأمن بغرض تنفيذ ما جاء في منطوق الحكم وهو ما قد يصطدم بأهواء ومصالح الدول الدائمة فيه من خلال حق الفيتو. ولكن ربما تكمن عناصر قوة الحكم في اعتباره عنوانا للحقيقة، واظهار اسرائيل كدولة معتدية ومرتكبة لجرائم حرب وهي الصور التي لم يكن العالم يدركها حق إدراك.
تتمتع المحكمة ايضا بالاختصاص الإفتائى أو الاستشاري، وبموجبه يُطلب من المحكمة رأيها الاستشارى فى أية مسألة قانونية، وهي رخصة قاصرة على الجمعية العامة أو مجلس الأمن، أو فروع ووكالات الأمم المتحدة، ممن يجوز أن تأذن له الجمعية العامة بذلك، وبالتالي غير مسموح للدول اتخاذ مثل هذا الاجراء، ويلاحظ أن الأحكام الاستشارية للمحكمة لا تتمتع بقوة الإلزام، إلا أنه قلما لا تتبعها الجهات التى طلبتها مما أضفى عليها قدراً من الاحترام لا يقل أهمية عن الالتزام الذى تتمتع به الاحكام، ولعل أصرخ مثال على ذلك هو حكمها الاستشاري الرافض للجدار العازل وعدم الاعتراف به، بعد أن قبلت المحكمة طلب فتوى من الجمعية العامة في 2003 لبيان الوضع القانوني بشأنه، وأفتت بأنه مخالف للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وطالبت إسرائيل بإزالته كاملا مع تعويض المتضررين من بنائه، وطالبت دول العالم بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن عنه.