%45 من اللقاحات لـ 7 دول لا تضم أكثر من 10% من سكان العالم

محمود سلامة

رُبما أول ما يتبادر إلى الذهن هو “مبدأ التوزيع العادل والمُنصف” للقاحات كوفيد-19 بمجرد إنتاجها، لكن التساؤل الأكثر إلحاحاً يتعلّق بالمعيار الذي يُبنى عليه هذا النوع من التوزيع الذي يُفترض أن يتسم بالإنصاف والحيادية بالنسبة لدول العالم؟ وهل يفصح الواقع عن الأخذ بهذا المعيار أم بمعايير أخرى تتفاوت في عدالتها؟ وهل هناك أساس إلزامي للتوزيع المنصف والعادل؟

 قد يستسيغ البعض أحقية الدول الأكثر إصابة بفيروس كورونا المستجد في الاستحواذ على النصيب الأكبر من اللقاحات، وإن كان هذا المعيار لا يُعبّر عن حقيقة الواقع إلا إذا تم تنسيبه لكل مليون نسمة في كل دولة لتحديد المعدل الدقيق للإصابات. وقد يهتدى البعض الآخر إلى أن العبرة في الاستحواذ على اللقاحات بعدد الحالات الحرجة فقط، إذ إن الدورة الأولي لإنتاج اللقاحات لن تغطي المصابين كافة، فيتعين تصنيف الدول بحسب الحالات الحرجة فيها ثم يتم توزيع اللقاحات على أساسها. وآخرون قد يرون أن المعيار هو أولوية الحصول على اللقاح للدول التي قامت بتصنيعه تلك الدول التي تتكبد مشاق البحث العلمي ابتداءً حتى مرحلة التصنيع انتهاءً هي التي تفوز بقصب السبق ويكون لها نصيب الأسد منها. وبالنظر إلى أرض الواقع نجد أن المعيار الأخير -وإن كان بالطبع غير مُنصف- قد فرض نفسه بقوة حيث أن 45% من عمليات التطعيم كانت من نصيب الـ 7 دول الصناعية الكبرى، بحسب حصيلة أعدتها وكالة (فرنس برس) في النصف الثاني من فبراير 2021، وهم (الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان) على الرغم من أن مجموع سكان تلك الدول لا يزيد عن 800 مليون نسمة بحسب إحصاءات البنك الدولي، أي يُمثلون 10% فقط من سكان العالم، وبمفهوم المخالفة يتقاسم 90% من سكان العالم 55% من اللقاحات! ولعلّ ما يؤكد ذلك تصريح الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” بقوله إن “10 بلدان فقط استحوذت على 75% من جميع اللقاحات بالعالم”.

وفي سبيل البحث عن معيار أكثر عدلاً وإنصافاً لتوزيع لقاحات فيروس كورونا دعت منظمة الصحة العالمية الدول للمشاركة في “مبادرة كوفاكس” تلك المبادرة التي ترمي إلى العمل مع مصنّعي اللقاحات من أجل تمكين البلدان في مختلف أنحاء العالم من الحصول على لقاحات مأمونة وفعالة بشكل منصف بمجرد ترخيصها واعتمادها، وقسّمت المبادرة الدول الأشد احتياجاً وهم 92 دولة بحسب وضعهم الاقتصادي إلى ثلاث طوائف، أولاً: بلدان منخفضة الدخل ضمّت من الدول العربية الصومال وجنوب السودان وسوريا واليمن. ثانياً: بلدان متوسطة الدخل ضمّت في قائمتها من الدول العربية كلاً من مصر والجزائر والمغرب والسودان وتونس وفلسطين. ثالثا: البلدان الأخرى المؤهلة للحصول على الدعم من المؤسسة الدولية للتنمية ولم تضم أي من الدول العربية. أما الدول ذات الدخل المرتفع وهم 80 دولة فإنها ستقدم الدعم الكافي والتمويل اللازم لتجسيد عدالة التوزيع على أرض الواقع.

في حقيقة الأمر إن “مبادرة كوفاكس” التي يُشارك فيها 172 اقتصاداً حالياً بحسب منظمة الصحة العالمية، استندت إلى معيار اقتصادي بحت وهو الناتج المحلي للدولة، الذي يُعبر عن قدرتها في شراء اللقاحات من عدمه. وربما يكون هو المعيار الأقرب والأنسب للإنصاف في توزيع اللقاحات التسعة التي ضمتها في قائمتها. ورغم التفاعل الكبير مع تلك المبادرة التي جذبت اهتمام العالم وأضحت ميثاق دولي للتوزيع المُنصف للقاحات كورونا، يظل السؤال المتعلق بمدى التزام الدول بهذا الميثاق مطروحا على طاولة النقاش؟

بيد أن هذا النوع من المبادرات يُعطي خياراً للدولة العضو في أن تلتزم به أو تتحلل عنه دون أي مسؤولية دولية تقع على عاتقها، الأمر الذي يضفي مجرد طابع أخلاقي لا قانوني لهذا الميثاق الذي أُعلن عنه في أغسطس 2020، إلا أن مجلس الأمن دعا في أحدث قراراته – الصادرة بتاريخ 26/2/2021 والذي تم الموافقة عليه بإجماع الـ 15 عضواً – إلى “تعزيز النهج الوطنية ومتعددة الأطراف والتعاون الدولي، من أجل تسهيل الوصول العادل وميسور التكلفة للقاحات كوفيد-19 في حالات النزاع المسلح، وحالات ما بعد النزاع وحالات الطوارئ الإنسانية المعقدة”. وطلب القرار من الدول المتقدمة التبرع بجرعات لقاح كوفيد-19 للبلدان منخفضة ومتوسط الدخل من خلال “مبادرة كوفاكس” المعنية بالتوفير المُنصف للقاحات. الأمر الذي يُغير من طبيعة الميثاق ليرتقي به إلى مصاف المواثيق الملزمة، إذ إن قرارات مجلس الأمن تتمتع بقيمة قانونية نافذة وملزمة في مواجهة كافة أعضاء المجتمع الدولي تلك القيمة التي تُرسخ صلاحية مجلس الأمن في مباشرة أهم اختصاصاته ألا وهي حفظ السلم والأمن الدوليين. الأمر الذي يشير إلى تلمٌّس أول أساس قاعدي يُمكن أن ينبني عليه مسؤولية الدولية التي تحجم عن تسهيل الوصول العادل وميسور التكلفة للقاحات كوفيد-19 أو تمتنع عن التبرع للدول الأقل دخلاً كما ذُكر في متن القرار الأممي.

لا يخلو القرار الأخير لمجلس الأمن من أهمية في تعزيز التوزيع المنصف للقاحات المُنتَجة أو التي سيتم انتاجها مُستقبلاً وبخاصة في مناطق النزاعات المسلحة، وربما يُصاحب هذا التعزيز تخوف جدير أن يوضع في الاعتبار وهو إعطاء الضوء الأخضر لمجلس الأمن في توقيع جزاءات أياً كانت طبيعتها سواء اقتصادية ورُبما عسكرية في حدها الأقصى، في الحالة التي تمتنع فيها بعض الدول عن تنفيذ قرارها المتعلق بالتوزيع المنصف للقاحات باعتباره خرقاً لقواعد القانون الدولي العام، إلا أن الأمر ليس بهذه السهولة حيث إن أكبر الدول المُصنعة للقاحات هي في الأساس أعضاء دائمين في مجلس الأمن يحق لهم استخدام حق الاعتراض (الفيتو) بخصوص أي جزاء صادر في مواجهتهم، فضلاً عن كونهم من أكبر المتبرعين لمصلحة الدول ذات الدخول المتوسطة أو القليلة، فصدور قرار مجلس الأمن مكتسب مهم للغاية إلا أن الأمر يتطلب اتخاذ تدابير وإجراءات تعبر عن مضمونه على أرض الواقع.    

ولعلّ عدالة التوزيع تقود إلى مراجعة مسألة التنازل عن الملكية الفكرية المتعلقة بتكنولوجيا تصنيع اللقاحات وتعميمها بحيث تكون مُعظم الدول قادرة على انتاجها وتوزيعها محلياً أو دولياً حتى وإن كان هذا التنازل مؤقتاً ينزل منزلة الاستثناء من القاعدة العامة، حيث إن مناط الأخذ بهذا الاستثناء يكمُن في الضرورة الإنسانية وما تكتنفها من سمو في المصلحة التي تحميها وهي مصلحة بقاء الوجود الإنساني.