كان بعض العمال يحفرون والجرافات المصرية تحفر التربة لتشييد مبان خرسانية جديدة، في ورشة بناء ضخمة في جباليا شمال قطاع غزة، عندما رأى أحدهم قطعة غريبة من الحجر تخرج من الأرض، وهي بقايا نحو 40 مقبرة رومانية عمرها 2000 عام.
قال الحارس أحمد الذي شاهد الحجر: “اعتقدت أنه نفق”، في إشارة إلى الأنفاق السرية التي حفرتها حركة “حماس” التي تسيطر على القطاع الفلسطيني الخاضع للحصار الإسرائيلي منذ عام 2007.
بعد الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحماس في مايو 2021، شرعت مصر في نهاية يناير 2022 في إعادة إعمار جزء من القطاع الصغير البالغة مساحته 362 كيلومتراً مربعاً، ويتكدس فيه 2.3 مليون نسمة.
وأضاف الفلسطيني الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه الكامل: “نبهت رئيس العمال المصري الذي اتصل على الفور بالسلطات المحلية وطلب من العمال التوقف عن العمل”.
وانتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي شائعات عن اكتشاف هام محتمل، ما دفع دائرة الآثار في غزة إلى الاتصال بمنظمة “Premiere Urgence Internationale” (الإغاثة الأولية الدولية) غير الحكومية الفرنسية، والمركز الفرنسي لدراسة الكتاب المقدّس والآثار في القدس لتقييم أهمية الموقع وتحديد منطقة التنقيب.
واكتشف الفريق الذي وصل إلى جباليا بقيادة عالم الآثار الفرنسي رينيه إلتر، مقبرة رومانية مدفونة منذ قرون في باطن أرض غزة.
وقال عالم الآثار لوكالة “فرانس برس” إن “الأعمال الأولى حددت حوالى 40 مقبرة تعود إلى العصر الروماني القديم بين القرنين الأول والثاني بعد الميلاد”.
وأضاف أن “هناك مقبرة أكبر من هذه القبور الـ40، ويُتوقع أنها تحتوي على ما بين 80 و100 قبر”، لافتاً إلى أن إحدى المقابر المكتشفة مزينة “بلوحات متعددة الألوان تمثل تيجاناً وأكاليل من أوراق الغار” إضافة إلى “جرار مخصصة لإراقة الشراب الجنائزي”.
كانت المقبرة متاخمة لمدينة أنثيدون الرومانية، ثاني مرافئ غزة حينها على الطريق المؤدية إلى ما بات حالياً مدينة عسقلان الواقعة عند تخوم القطاع الفلسطيني.
تنافس على الكنوز
في إسرائيل والأراضي الفلسطينية، تشكل قضايا الآثار موضوعات سياسية للغاية. وفيما لدى إسرائيل ترسانة من علماء الآثار يكشفون عن عدد لافت من الكنوز القديمة، لا يزال هذا القطاع متأخراً إلى حد كبير في غزة.
وتابع إلتر: “مع ذلك، لا توجد فروق بين ما يمكن أن تجده في غزة وعلى الجانب الآخر من السياج”.
وأضاف: “في غزة، اختفت مواقع كثيرة بسبب الصراع وورش البناء، لكن المنطقة تشكل موقعاً أثرياً ضخماً يتطلب فرق خبراء كثيرة”.
وأقيمت أسوار حول المقبرة الرومانية التي يراقبها الحراس باستمرار، فيما يواصل العمال تشييد طبقات خرسانية في المباني المجاورة قيد الإنشاء.
وقال جمال أبو رضا مدير الخدمات الأثرية المحلية التي تضمن حماية المقبرة حتى يناير 2023: “نحاول مكافحة تهريب الآثار داخل غزة وخارجها”، معرباً عن أمله في إيجاد متبرعين لتمويل الحفريات.
وقال مدير منظمة الإغاثة الأولية الدولية غير الحكومية في قطاع غزة جهاد أبو حسان: “غالباً ما ترتبط صورة غزة بالعنف، لكن تاريخها مليء بالكنوز الأثرية التي يجب حمايتها للأجيال المقبلة”.
وتواجه غزة تحدياً كبيراً آخر يتمثل في الضغط السكاني، ففي غضون 15 عاماً، زاد عدد السكان في القطاع من 1.4 مليون نسمة إلى 2.3 مليون، ما يدفع بالضرورة إلى طفرة كبيرة في تشييد المباني الجديدة.
وأضاف أبو حسان: “يتجنب البعض إبلاغ السلطات بالاكتشافات الأثرية في مواقع البناء خوفاً من عدم الحصول على تعويض” في حالة التوقف عن العمل، و”بالنتيجة نفقد مواقع أثرية كل يوم”.
وتابع: “من هنا تأتي أهمية استراتيجية الدفاع عن التراث” للحفاظ على التاريخ وتدريب علماء الآثار المحليين.
المصدر: الشرق للأخبار